Press

المخرج سيمون صفية: في “السردين يحاول الطيران” خط وثائقي وروائي بحثت فيه عن الهوية في اللاهوية

أورنينا – نوّار عكاشة
08/11/2018

 

أن تقرر صناعة سينما مستقلة؛ عليك أن تكون عاشقاً مخلصاً للسينما؛ شغوفاً بعوالمها؛ مراقباً وباحثاً لتأسيس وتقديم ما هو مغاير
‎عليك الإيمان بأفكارك وقدرتها على الوصول، حاملاً رؤاك واتجاهاتك الفنية، ومتحاملاً على كل ما قد يواجهك في نضالك لتحقيق غايتك وحقك المشروع
‎فالسينما المستقلة وُجِدَت لتحقيق الذات، وإطلاق الرؤى، والتحرر من هيمنة الممول، بها تكسر القواعد والعادات التقليدية لتلك الصناعة، وتتمرد على إملاءات الصندوق لتعيد اكتشاف هذا الفن
‎حتى الآن، لم تتعدى السينما المستقلة صفة التجربة، ولعل تلك ثيمتها الحميدة، لا تقوم على تمرير الرسائل، بل تبحث عن علاقات تفاعلية بين العناصر، وتقترح فرضياتها وتقدمها لإدراك المتلقي لعلها تصيب حواسه بالشك

‎بِحكم ابتعاد السينما المستقلة عن متطلبات آليات الدعم الكلاسيكية، وتوجهات المنتجين؛ تضاعفت المشقات على صُناعها، وإن وُجِدَت الأدوات بتوفر كاميرات الديجيتال و تطور و وفرة التقنيات، فَثمةَ صعوبات مختلفة تضاف للعملية، وتبدو تلك الصعوبات أعظم في السينما المستقلة السورية، هنا تواجه السينمائي المستقل أحوال سياسية واقتصادية مأساوية تُصعّب عليه أساسيات العمل، بدءاً من إمكانية تفرغه للتفكير بصناعة فيلمه، مروراً بالحصول على موافقات التصوير، إلى ما بعد الانتاج وقدرته على عرض وتسويق فيلمه

في طليعة أولئك السينمائيين، يأتي سيمون صفية (1988)، القادم من 6 سنوات في النادي السينمائي في طرطوس، ليصنع سينماه الخاصة، غنياً ببحثه المعرفي في السينما والفنون واجتهاده للعلم والتجربة، في بلدٍ غيبت الدراسة الأكادمية السينمائية عن مواطنيها
‎بنشاطٍ واندفاع انطلق صفية منذ عدة سنوات، تواجد كَمخرج مساعد أو متمرن مع عدة مخرجين في مواقع تصوير أفلامهم : صديقي الأخير، 29 شباط، بانتظار الخريف، الحافلة، حرائق
‎بدايته الفردية كانت بفيلم عن الأم – لم يكتمل – بعنوان «يامو»، ليصنع لاحقاً فيلمه التجريبي الاول من نمط الدقيقة الواحدة «ليس مجرد تفاحة» (2012 ، 1 د) الحاصل على تنويه من مهرجان أفلام الدقيقة الواحدة في أمريكا، انتقل بعده إلى الفيلم الوثائقي «النفق» (2013 ، 25 د) انتاج: فيلم فقير، لم يُعرض حتى عام 2015، ولهُ في الروائي القصير فيلمين، «ليش» (2013 ، 8 د)، انتاج المؤسسة العامة للسينما، «جوليا» (2014 ، 16 د)، انتاج المؤسسة العامة للسينما، شارك في عدة مهرجانات سينمائية، وحصد عدة جوائز، كما لهُ نشاط واسع في ورشات مشروع (عدسة سلام) لتدريب و تمكين الشباب السوري في صناعة الأفلام والتفاعل الإيجابي في المجتمع، ليقدم وعبر مبادرة (فيلم فقير) نحو انتاج الفيلم الروائي الطويل الأول لهُ، المبادرة التي قامت على تجميع واحتضان عشاق السينما لاطلاق انتاج سينمائي مستقل يرضي شغف الطامحين، صنعت باكورة أفلامها الروائية الطويلة بعنوان «السردين يحاول الطيران» بعد 4 سنوات من البحث والتجريب والعمل، ليكون تجربة مضافة للسينما المستقلة السورية في محاولتها للتنفس خارج الماء والطيران نحو فضاءات أوسع. الفيلم أصبح جاهزاً للعرض، ويُروّج لهُ بألبوم موسيقي مستوحى منه من تأليف الفنان سامر النعيمي يؤدي أدواره الرئيسية كل من : محمد عبد الله علي، محسن عباس، نانسي خوري، ورد حيدر، نور غانم … وآخرون

‎كان لأورنينا لقاء مع صفية وعن فرضية الفيلم وفكرته يقول : الفرضية جاءت من عبارة “في سوريا كل 10 دقائق يموت إنسان بسبب الحرب، ماذا لو عاد أحد الذين ماتوا إلى الحياة”، سألت نفسي ذلك السؤال وأنا أقرأ التقرير السنوي الموثق للأمم المتحدة، أصابني ذلك السؤال بالأرق، وكتبت مجموعة مشاهد كَسيناريو أولي، قدمته لمجموعة أصدقاء، بعضهم كان لديه نقد لاذع له، وبعضهم وجد بهِ سكريبت جيد، لاسيما أنه جاء بعد أن قدمت فيلم (جوليا)، أقمت ورشة عمل لمجموعة من السينمائيين، أخذت بها ملاحظاتهم، وذهبت إلى ممثل كنت قد اخترته للعمل على فيلم آخر، أرسلت له النص، وطلبت منه البدء بالتحضير له، خلال شهرين أقمنا بروفات، وبعدها بدأنا بالتصوير

 


الفيلم يبدو حساساً بفرضيته، وأسلوبه الإخراجي الذي يدمج عدة أنواع وأنماط سينمائية، عن ذلك يقول صفية: لدي خط وثائقي وخط روائي (سردي وتجريبي)، محاولة المزج بين أكثر من نمط؛ يحتاج وقت للتفكير ووقت للتصوير بحكم غياب الانتاج، وحين نقول الدمج بين الروائي والوثائقي؛ فمن الضروري خلال التصوير وجود حالة دمج بين النمطين كي يتحقق التركيب بينهما، النمطين مختلفين، لذلك ذهبنا بالنمط الروائي نحو الواقعية الحديثة، ولكن البحث الأصعب كان في العمل مع الممثل خلال شهرين لتقمص الشخصية ووضعه لاحقاً في الحدث للتعامل مع الناس، لم أذهب لخيارات مع الممثل فيما يتعلق بالتحفيظ والحوار والبروفات … كنا نصور البروفات على أنها ستكون المشهد، لذلك جاءت معظم المشاهد بلا تقطيع لإعطاء واقعية أكثر في العمل، اللحظات البنائية مع الممثل مختلفة، كما تعامله بشخصيته مع الحالة والناس في أماكن عامة ضمن فرضية الفيلم، ذلك هو المختبر، الأمر له علاقة بالوعي واللاوعي، فأنت ابن هذا المجتمع في هذه اللحظة، كل ما يحدث في هذا المجتمع ينعكس عليك، وتعيد تصديره كصانع أفلام، وهذا ما جربت عمله في هذا الفيل

 

وعند سؤاله عن طول المدة الزمنية لإنجاز الفيلم، يجيب: هذا هو شكل هذه الصناعة، أنت تصنع فيلم مستقل، بلا انتاج، تلك طبيعة الفيلم وشكل انتاجه وتجربة صانعه الشخصية وعلاقة صانعه مع واقعه، المهم في النهاية استمرار البحث حول وعن الفيلم، والذهاب باتجاهه، مهما طالت المدة، فهذا بحثك وأنت حر بهِ، وفي النتيجة النهائية، الجمهور هو الحكم على استمرار الفيلم أو نسيانه
‎وعن هواجسه وتوقعاته لتقبل وآراء الجمهور بعد عرض فيلمه، يقول: جئت إلى صناعة الأفلام فقط لأنني أحبها، أحب هذا الفن، ولا أريد التخلي عن شغفي به، لذا سأبقى أجرب بهِ سواء نجحت أو فشلت، الآن لا يهمني الفيلم بقدر ما يهمني ما عشته مع تلك التجربة، وهذا ما أتمنى لكل إنسان يحب صناعة الأفلام أن يعيشه، فمن حق كل شخص يرغب بصناعة فيلم أن يحقق رغبته، بعيداً عن التقييمات، هو حق بالحلم ومن الضروري الدفاع عنه، وأنا دافعت عن حقي بهذا الفيلم. أنا لست مراهناً، أعتقد أن الجمهور السوري لم يشاهد، لذلك فهو غير معتاد، الانتاج السينمائي السوري في ال 15 عام الماضي؛ ذهب بشكله الدرامي باتجاه معالجات للواقع، ولاقى هذا الاتجاه تقبل لدى الجمهور؛ بحكم أن الدراما مرتبطة بالتلفزيون الذي يتواجد لدى كل بيت سوري، لذلك لم تخرج من ذلك الإطار المرغوب، أو ما يسمى متطلبات السوق، وانعكس ذلك على الانتاج السينمائي أيضاً، لذلك أرى أن ما حدث أنه تمَّ تقديم تجارب للجمهور، قد تكون تجارية في الخارج، تلك التجارب التي نسميها سينما مستقلة، أو خارجة عن الصندوق أو السياق العام؛ في الخارج معتادين عليها، إذا الجمهور يذهب للصالة وهو يريد رؤية شيء ما، إما أنا يحبه فتصبح أنت عارف وفاهم لمتطلباته، أو لا يحبه وتصبح المشكلة بكَ أنت


ا أريد أكثر من أن يصبح الجمهور متقبلاً، لا أسعى للإعجاب بعملي، فالفن هو منتج إنساني يعبر الإنسان به عن مشاعره وأحاسيسه أو عن رأيه بشيء ما، تلك المشاعر وآلية السرد قد تصل للناس وقد لا تصل، مع التنويه أن ذلك يتبع لثقافة المشاهد، الفن مساحة للاختلاف والالتقاء، كل شخص في تلك المساحة يقدم منتجه الفني، قد ينال ذلك المنتج استحسان مجموعة ونقد مجموعة، حالة التصالح تلك ليست موجودة، المخرجين اليوم لديهم حالة فوقية بلامبالاتهم بفهم وإعجاب الجمهور لأفلامهم، كما لدينا حالة استسهال مع منطق الإعجاب، لا يسلبك الإعجاب، ولا يقدم عمله ليجعلك تعجب بما قدمه، إنه يقدم لك حالة أنت معتاد عليها

‎وعن رؤيته للسينما السورية عامةً، والمستقلة منها، يقول: السينما السورية لا يوجد بها هوية فيلمية، هوية سينمائية حقيقية، التجارب الفنية التي خُلِقت وعاشت في هذا البلد معدودة، في السينما السورية توجد أفلام لكن لا توجد سينما سورية، أتكلم عن الهوية السورية، بعد 2010 نحن في مرحلة تخبط، غير قادرين على رؤية تجارب بحثية حقيقية في السينما تقدم الفيلم السوري في العالم، بالإضافة لوضع سوريا ، هذان السببان، لا تجربة في الداخل ولا البيئة في الخارج كانت مناسبة للدخول والمنافسة
‎في هذا الفيلم بحثت عن الهوية في اللاهوية، عندما أخذت الخيار بكتابة النص بالدمج بين الروائي والوثائقي كان الخيار محاولة لاسقاط عدم وجود هوية الشخصية على النص والفيلم، وعندما ذهبت إلى الإطار التجريبي كان أيضاً إمعاناً في اللاهوية. في السينما من المستحيل إيجاد موجة جديدة بغياب مؤسسات حاضنة للتجارب ، بلا مأسسة التجارب ستبقى تجارب أفلام، نحتاج مؤسسة أو تجمع أو بيئة حاضنة لتستطيع تلك التجارب تقديم نفسها كمنتج فني في الداخل و الخارج

أما عن تجربته الإخراجية في الجزء الخاص بهِ من فيلم «حنين الذاكرة»، الفيلم الذي تمَّ إخراجه من قبل 4 مخرجين، ومن انتاج المؤسسة العامة للسينما، يقول: قمت بتجربة في الجزء الخاص بي، مختلفة تماماً عما قدمته سابقاً و مختلفة عن المزاج العام أيضاً، اتجهت بالنص لمكان مختلف، و ذهبت باتجاه الحل البصري السردي بنمط حديث غير مجرب سابقاً هنا، المؤسسة أعطتني مساحة فنية كبيرة بخيارات جديدة و تجريبية أحياناً

‎تأتي تجربة سيمون صفية في السينما المستقلة السورية واحدة من عدة تجارب فرضت نفسها بقوة في المرحلة الحالية، لعل تلك التجارب تشكل حافزاً للتغيير وترسم مستقبلاً بآليات جديدة يرتقي بالسينما السورية لتقدم محتوىً أكثر تحرراً وإبداعاً