جريدة الأحبار |فراس محمد
الإثنين 6 آب 2018
دمشق | السينما فنّ مكلف، قياساً لبقية الفنون، ما فرض على السينمائي البحث عن موارد دعم مالية تقيه النقص وتحرر أدواته، وفي المقابل تمنحه القدرة على خلق واقعه المُراد سينمائياً. في النتيجة، يقوم المفهوم الإنتاجي للسينما، على إدارة المال وتوجيهه وصناعة الواقع حسب رغبات الممول، وقد أصبح هذا المفهوم متحكماً إلى حدّ بعيد بالأفكار وطريقة صياغتها وتكريس البعد السياسي أو الاقتصادي في هذه العملية. في أميركا خمسينيات القرن الماضي، تكرّس مصطلح «سينما الاستديو». تبني عوالمها من الصفر، تعتمد على مفهوم النجم، فتحولت السينما إلى حالة أقرب إلى البورجوازية همّشت الشارع، وسوقت للطبقة العليا من المجتمع بتصوير صراعاتها وتشريح أفكارها. رغم خروج الكثير من الأفلام العظيمة من رحم هذه العقلية، بقيت السينما مناهضة للواقع، زادت حدة وتعنتاً إثر خروج كاميرا المخرج الإيطالي روسيلّيني إلى شوارع روما المهدّمة بفعل الحرب العالمية. مدينة هدّمت مسارحها واستديوهاتها، فلم يجد مخرجو الواقعية الإيطالية بديلاً من كسر القاعدة وفتح المساحات وتوظيف الإنسان العادي بدل الممثل المحترف لصياغة رؤاهم السينمائية. كانت هذه شرارة ابتعاد السينما عن الأهواء المالية وانفتاحها على كل المرجعيات العمرانية والاجتماعية.
الحاجة إلى التعبير، وضرورة ابتكار لغات سينمائية جديدة، كانتا من دوافع أي سينما مستقلة ناشئة. ويبدو أن الأمر يزداد صعوبةً في بلدان العالم الثالث، حيث أصبحت السينما جزءاً لا يتجزأ من وسائل التعبير. لكنّ حاجة السينمائي لراع أو ممول، حالت دون صعود شرارات السينما المستقلة. في المغرب العربي، توجّه جزء كبير من المخرجين إلى الممول الفرنسي. أما في مصر ولبنان، فكانت المِنح الإنتاجية عاملاً مُساعداً رغم صعوبة الشروط. في سوريا، تبدو المهمة أصعب: الواقع الذي فرض نفسه على السينمائي، قد لا يرقى إلى طموحات المانحين السياسية، فكان الإنتاج المستقل السوري ـــ إن وجد ــ مقتصراً على السينما القصيرة (روائية أو وثائقية)، بينما كان شبه معدوم على صعيد السينما الروائية الطويلة. بالإضافة إلى الأعباء المالية الضخمة، تحتاج السينما الروائية الطويلة إلى ثقافة التسويق والتوزيع شبه الغائبة عن الجهات غير الرسمية. يأتي ذلك في وقت تحولت فيه هذه الثقافة إلى رأس حربة قادرة على توجيه الفيلم إلى المكان الذي يريده صانعه. معطيات تجعل قرار صنع فيلم طويل، تحدّياً يمكن وصفه بشبه المستحيل، لكنّه قرار اتخذه المخرج السوري الشاب سيمون صفية (1988) منذ ثلاث سنوات، بتمويل ذاتي وبمشاركة شركاء آمنوا بالتجربة، فكان فيلمه «السردين يحاول الطيران» (2015). يقول صفية: «الكل تعامل مع التجربة بالاحترام والاهتمام منذ بداية الإنتاج. تنازلوا عن أجورهم لتكتمل التجربة. أتحدث عن الممثلين، ومهران يوسف الذي قدم الكاميرا، وإبراهيم ملحم الشريك. كما أن هذه التجربة سمحت لي بالتعرف إلى الموسيقي سامر النعيمي الذي صنع ألبوم الموسيقى المستوحى من الفيلم»، لتحقيق ما يمكن اعتباره الفيلم المستقل الأول ضمن خريطة السينما السورية الحديثة. بكاميرات ديجيتال، انطلق صفية لتصوير فيلمه في طرطوس أواخر 2015، من بطولة محمد علي، ونانسي خوري، ومحسن عباس وغيرهم.
اعتماد صفية على ثقافته السينمائية وتحرره الإنتاجي عبر مشروع Poor Film، ساعدا في بلورة الفكرة ككل من مرحلة التصوير إلى مرحلة ما بعد الإنتاج، تاركة له المساحة لابتكار لغته السينمائية وأساليبه التسويقية. وربما اشترت له الوقت الكافي لإنضاج المشروع والتفكير ملياً في تفاصيله. من جهة أخرى، سيتمكّن في منتصف الشهر الحالي، من إطلاق حملته الترويجية عبر ألبوم موسيقي بعنوان «السردين يحاول الطيران» (تأليف سامر النعيمي) حيث يُقدم مسارات صوتية من روح الفيلم ويحمل أفيشه نفسه. خطة الترويج المبتكرة ستسمح بمواربة أولى لإلقاء نظرة على الفيلم. بعد ثلاث سنوات من العمل التراكمي، وصل الفيلم إلى المرحلة الأصعب في العملية الإنتاجية برمتها، كونها مسؤولة عن منحه القدرة على الولوج إلى الشاشات الكبيرة، كتتويج لصراع طويل مع تقاليد السينما المستقلة وخصوصيتها الإنتاجية والبحث الجدي عن فرصة حقيقية لتبنّي النتاج. يقول صفية: «كنت أبحث في الحقيقة في السينما، وقد يبدو هذا الكلام قديماً، لكن على ما يبدو هو سؤال تطرحه الحرب لا أنت. كيف أتحدث عني بدون أن يبدو الفيلم ذاتياً؟». طموح صفية بأن يخلق لفيلمه فرصة المُشاهدة خارج البلد، ستجعله ملفتاً للنظر في ظروف ازدحام المهرجانات العالمية بأفلام صنعها سوريون مقيمون خارجاً، إضافة إلى اعتباره ذا قدرة تعبيرية جديدة متكئة بالكامل على إنسانية شخوصه وضياعها تحت وطأة الحرب.
أنهى أخيراً تصوير جزئه الخاص من فيلم «حنين الذاكرة»
افتراض الفيلم المختزل بسؤال «ماذا لو؟»، يتحوّل ضمن سياق أقرب إلى السرد القصصي لعبارة «حدث ذات مرة». هذا الانتقال القاسي من الافتراض إلى رصد الواقع، ترك في «السردين…» لحظات تأملية ثقيلة مصنوعة بنزعة واضحة لاستجرار أسئلة جوهرية عن واقع الحرب في واحدة من أكثر المدن السورية تضرراً وفقداناً للشباب، بصفة لصيقة لرغبة صفية في سبر التغييرات الضمنية في مفاهيم الهوية والانتماء. مفاهيم الفيلم المطروحة بشدة في السينما السورية منذ نشأتها، اتخذت في شريطه صفة المستجوب، في محاولة جريئة لضبط الواقع وفق متغيرات لا يحاول تجاهلها قدر التماس ارتداداتها مبتعداً عن التخصيص والاستثنائية، ذاهباً نحو التعميم بصورته الموجعة، ونازعاً عوامل الأمان عن المفاهيم التقليدية في خيار استجوابه السينمائي. معالجته للمفاهيم الطارئة ـــــ التي ظهرت خلال الأزمة السورية ـــــ لا تختلف عن محاولات المخرج لطرح خياره الفني المستقل بالأدوات المتاحة ليصنع هذا طِباقاً بين الشكل والمضمون، وبين الدرامي والوثائقي، لا سيما مع استناد حبكة الفيلم على تجربته في فيلمه الوثائقي القصير «النفق» (2013 ـــــ Poor Film) في تجربة شبيهة بفيلم المخرج المصري أبو بكر شوقي «يوم الدين» (٢٠١٨) استكمالاً لفيلمه القصير عن مستعمرة الجذام. يقول صفية لـ «الأخبار»: «التمويل الذاتي خيار مطروح في أول كل فكرة. نحن نصرف وقتاً كبيراً في إقناع الناس بأفكارنا. قالها سيدني لوميت، أفضّل صرف الوقت في صناعتها على إقناع شركات الإنتاج وصناديق المنح بتمويلها. في النهاية، من يهتم بالفيلم سيهتم به».
قدم صفية فيلمين قصيرين من إنتاج «المؤسسة العامة للسينما» هنا «ليش؟» (2013) و«جوليا» (2014) بخلاف فيلمه «النفق»، وأنهى أخيراً تصوير جزئه الخاص من فيلم «حنين الذاكرة» كواحد من المخرجين الأربعة المشتركين في إخراجه (إنتاج «المؤسسة العامة للسينما»). تبقى تجربته في «السردين يحاول الطيران» الأكثر خصوصية والأكثر تعبيراً عنه كمخرج شاب يحاول وضع بصمته. ويبقى خيار استقلالية الشريط السينمائي، خياراً شجاعاً ومكلفاً ليس فقط على الصعيد المادي، بل أيضاً في قدرته على استنزاف كل القدرات والإمكانيات وضخها في زمن واحد محمّل بهمّ سينمائي وإنساني شديد التطلب والاستفزاز لكل مكوناته كمخرج وكمستقل.